اسم الکتاب : البحر المديد في تفسير القرآن المجيد المؤلف : ابن عجيبة الجزء : 1 صفحة : 375
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ أخذنا الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام. وقلنا لهم: والله للذي خصصتكم به مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثم إن ظهر رسول مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ أنتم وأممكم، أو: لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمداً لتؤمنن به ولتنصرنه. قال سيدنا علي- كرّم الله وجهه-: (لم يبعث اللهُ نبياً، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد، وأمره بأخذ العهد على قومه ليُؤْمنُنَّ به، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لينْصُرُنَّه) .
قالَ الحق جلّ جلاله لمَن أخذ عليهم العهد: أَأَقْرَرْتُمْ بذلك وقبلتموه، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي:
عهدي وميثاقي؟ قالُوا أَقْرَرْنا وقبلنا، قالَ فَاشْهَدُوا على أنفسكم، أو ليشهدْ بعضكم على بعض بالإقرار، أو فاشهدوا يا ملائكتي عليهم، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وفيه توكيد وتحذير عظيم، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والشهادة، وأعرض عن الإيمان به، ونصره بعد ظهوره، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن الإيمان المتمردون في الكفران.
الإشارة: كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم في الإيمان به عليه الصلاة السلام، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة، لئن أدركوا وليّاً من أولياء الله، حاملاً لواء الحقيقة، مصدقا لما معهم من الشريعة، ليؤمنن به ولينصرنه، فمن تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية، محرومون من سابق العناية، فإن الحقيقة إنما هي لب الشريعة وخلاصتها، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد، فالشريعة كالجسد، والحقيقة كالروح، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد، فلا قيام لهذا إلا بهذا، فمن تشرَع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتشرّع فقد تزندق، ومَن جمع بينهما فقد تحقق، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره. وإليه توجه الإنكار بقوله:
[سورة آل عمران (3) : آية 83]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قلت: (أفغير) : مفعول مقدم، و (يبغون) : معطوف على محذوف، أي: أتتولون فتبغون غير دين الله، وقدم المعمول لأنه المقصود بالإنكار، و (طوعاً وكرهاً) : حالان، أي: طائعين أو كارهين.
يقول الحق جلّ جلاله للنصارى واليهود، لمَّا اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم، فقال لهم- عليه الصلاة والسلام: «كِلاكما بَرِيءٌ مِنْ دِينه، وأنا على دِينه، فخذوا به» ، فغضبوا، وقالوا:
والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك، فقال لهم الحق جل جلاله- منكرا عليهم-: أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه، وقد انقاد له تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طائعين ومكرهين، فأهل السموات
اسم الکتاب : البحر المديد في تفسير القرآن المجيد المؤلف : ابن عجيبة الجزء : 1 صفحة : 375